بسم الله الرحمن الرحيم
المُقدِّمة الأولى: قانون السَّببية
قانون السَّببية يُعَدّ من البديهيات العقلية والمعارف الأوَّلية التي لا يكاد يوجد من يُنكرها.
وقانون السَّببية يُمكن أن يُصاغ بأكثر من شكل، فقد نقول: إنَّ لكُلِّ فِعْلٍ فاعلاً، ولكُلِّ مصنوعٍ صانعاً، ولكُلِّ مخلوقٍ خالقاً، ولكُلِّ حادثٍ مُحدِثاً.
القانون يدور حول مفهوم الحُدُوث، وهو الشَّيء الذي له بداية، أو الشَّيء الذي تغيَّر عن حالةٍ سابقةٍ، والقانون يقتضي أنَّ الحُدُوث لا يُمكن له أن يحدث إلَّا لسببٍ، وهكذا لا يُمكن أن يحدث شيء إلَّا لسببٍ، ولا يُمكن أن يبدأ شيء إلَّا بسببٍ، ولا يُمكن أن يتغيَّر شيء إلَّا لسببٍ.
قانون السَّببية من المعارف البديهية
الفيلسوف البريطاني (والتر ستيس) في كتابه «تاريخ نقدي للفلسفة اليونانية» يقول: «كلّ مَن يدرس المنطق يعرف أنَّ هذا هو أعظم القوانين العلمية، وأساس كلّ القوانين الأخرى. فإذا لم نؤمن بحقيقة السَّببية، ألَا وهي: أنَّ كل شيء بدأ في الوُجُود له سبب، وأنَّه في نفس الظُّرُوف تحدث نفس الأشياء بلا تغيُّر؛ فستتلاشى كلّ العُلُوم على الفور. فإنَّ كلّ بحث علمي يفترض هذه الحقيقة».(1)
عالِم الرِّياضيات النِّمساوي (ريتشارد فون ميسس) يقول: «لا يُمكننا أن نُضيف إلَّا أنَّ كلّ الفلاسفة تقريباً يعتبرون قانون السَّببية القانون الأهمّ، والأبعد مَدَى، والأكثر رُسُوخاً من كلّ المبادئ المعرفية الأخرى. (...) لا يُمكن وُجُود شكّ في أنَّ قانون السَّببية بصيغته المذكورة توًّا يتَّفِق مع كلّ خبراتنا، ومع كلّ ما يدخل حيِّز معرفتنا بشكل أو بآخر. (...) ويُمكننا القول أيضًا إنَّه في الحياة العملية، لا تكاد توجد قاعدة سُلُوكِيَّة أكثر إفادة وموثوقية من افتراض أنَّ أيَّ حَدَث عرفناه يوجد ما قد سبقه كمُحدِثٍ له».(2)
ويقول أيضاً: «يقول (الإكويني): الشيء الذي يبدأ في الوُجُود، يصبح موجوداً بسبب شيء آخر. العِلْم الحديث قائمٌ على هذه الافتراض: أنَّ كلَّ حَدَث له سبب أحدثه. لذا، بالرَّغم من أنَّ هذا الافتراض يُمكن إنكاره (من النَّاحية الاحتمالية المُجرَّدة)، إلَّا أنَّه لم يكن لشخصٍ ذي نزعةٍ عِلْمِيَّة أن يُنكره».(3)
وهكذا نستطيع أن نقول إنَّ قانون السَّببية هو المبدأ الأساسي للعِلْم التَّجريبي. فبدون قانون السَّببية، يكون العِلْم التَّجريبي مُستحيلًا. (فرانسيس بيكون) أبو العِلْم الحديث يقول: «المعرفة الحقيقية هي المعرفة بالأسباب». أي أنَّ العِلْم التَّجريبي يحث عن الأسباب. هذا ما يفعله العُلماء، فهُم يحاولون اكتشاف السَّبب وراء الحَدَث.(4)
البعض يلجأ إلى اقتباسات للفيلسوف الإنجليزي (ديفيد هيوم) زاعمين أنَّه أنكر قانون السَّببية، رغم أنَّه صرَّح بأنَّه لم يفعل هذا أبداً، فإنَّ (هيوم) قال بنفسه: «اسمح لي أن أقول لك أنَّني لم أؤكِّد أبداً على هذه الفرضية السَّخيفة التي تقول أنَّه من المُمكن لشيء أن يحدث بدون سبب».(5)
قانون السَّببية مبدأ ميتافيزيقي
وفي النِّهاية يجب التَّأكيد على التَّالي:
أوَّلاً: «المُقدِّمة المنطقية الأولى (قانون السَّببية) لا تنُصّ فقط على قانون فيزيائيٍّ كقانون الجاذبية أو قوانين الدِّيناميكا الحرارية، والتي تسري على الأشياء التي داخل الكون. المُقدِّمة المنطقية الأولى ليست مبدأً فيزيائيًّا. وإنَّما مبدأ ميتافيزيقي، مثل القانون الذي يقول إنَّ الوُجُود لا يُمكن أن ينشأ من العدم المحض، كذلك لا يُمكن لشيءٍ أن يأتي إلى الوُجُود من العَدَم بلا سَبَب. ولذا ينطبق المبدأ (السَّببية) على الواقع بأسره، ولذا فإنَّه من السَّخيف ميتافيزيقيًّا أن يكون الكون قد أتى إلى الوجود بلا سبب من العدم».(6)
ثانياً: «قانون السَّببية لا يقول إنَّ لكلِّ شيءٍ سبباً، وإنَّما يقول إنَّ كلَّ حادثٍ يحتاج إلى سبب. فالإله ليس حادِثاً. الإله لم يخلقه أحدٌ، فهو غير مخلوق (حسب تصوُّر المذهب الألوهي)(7). الإله ككائن أزلي، ليس له بداية، ولذلك لا يحتاج إلى سبب».(8)
ولِمَن يقول بإمكان حُدُوث شيء بدون سبب نقول له: «إذا كان بمقدور الأشياء فعلًا أن تأتي من العَدَم إلى الوُجُود بلا سبب؛ فسيتعذَّر علينا تفسير لماذا لا يأتي شيء ما، أو كلّ شيء، إلى الوُجُود بلا سَبَب مِن العُدُم. لماذا لا تظهر درَّاجات، أو فنَّانين مُوسيقيين، أو مشروبات باردة، فجأة إلى وُجُود مِن لا شيء؟ لماذا لا يُمكن لشيءٍ أن يأتي إلى الوُجُود من لا شيء سِوَى الأكوان؟ ما الذي يجعل العَدَم مُتحيِّزاً هكذا؟ لا يُمكن أن يوجد شيء ما يجعل العَدَم مُتحيِّزاً للأكوان؛ لأنَّ العَدَم لا يتَّصف بشيء، فالعدم هو غِياب أيّ شيء أيًّا كان».(9)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
Walter Terence Stace: A Critical History of Greek Philosophy, 1934, p6. Cited in: Bert Thompson: The Case for the Existence of God, Apologetics Press Inc 2003, p4, 5.
Richard von Mises, (1951, p. 160, emp. in orig.) Cited in: Bert Thompson: The Case for the Existence of God, Apologetics Press Inc 2003, p5.
Keith Ward: Why There Almost Certainly Is a God (Doubting Dawkins), Lion Hudson plc 2008, p106.
Francis Bacon, The New Organon (1620; reprint, Indianapolis: Bobbs Merrill, 1960), 121. Cited in: Norman L. Geisler & Frank Turek: I Don't Have Enough Faith to Be an Atheist (Kindle Locations 1219-1223). Crossway. Kindle Edition.
David Hume to John Stewart, February 1754, in The Letters of David Hume, 2 vols., ed. J. Y. T. Greig (Oxford: Clarendon Press, 1932), 187. Cited in: William Lane Craig and Walter Sinnott-Armstrong: God? A Debate Between a Christian and an Atheist, Oxford University Press 2004, p5.
J. P. Moreland & William Craig: Philosophical Foundations for a Christian Worldview, InterVarsity Press 2003, p469.
هذا هو عين التَّصوُّر الإسلامي تحديداً، فالقرآن الكريم يصف الإله بأنَّه صمدٌ، والصَّمد هو الكامل كمال مُطلق، الذي لا يحتاج، والكل يحتاج إليه، وبما أنَّ الإله ليس له بداية، بل هو الأوَّل الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، فهو لا يحتاج في وُجُوده إلى آخر ليكون نُقطة بداية له، لذلك نجد أنَّ القرآن الكريم ينفي عن الإله كونه والِد أو مولود، لأنَّ الإله لا يحتاج إلى مولود بجانبه فيكون والداً له، ولا يُمكن أن يكون الإله مولوداً لأنَّ المولود يحتاج إلى والدٍ يَلِده ليوجد! فقانون السببية يقول إنَّ لكل حادثٍ سبباً، كذلك يُمكن صياغته بأنَّ لكُلِّ فعلٍ فاعل،
Norman L. Geisler & Frank Turek: I Don't Have Enough Faith to Be an Atheist (Kindle Locations 1547-1549). Crossway. Kindle Edition.
The Blackwell Companion to Natural Theology, Edited by: William Lane Craig and J. P. Moreland, 2009 Blackwell Publishing Ltd, Page 186.