بسم الله الرحمن الرحيم
مُختصر الفصل الثالث من كتاب أبحاث في علوم القرآن
بعُنوان:أبحاث في إعجاز القرآن الكريم
اختصره:أبو المُنتصر محمد شاهين التاعب
للتَّحميل: (PDF) (DOC) (رابط تحميل الكتاب الأصلي)
أوَّلاً: مناهج العُلماء في دراسة إعجاز القرآن
المبحث الأوَّل: الإعجاز القرآني في عصر النُّبُوَّة
تعريف الإعجاز والمُعجزة:
· الإعجاز في الاصطلاح هو زوال القدرة على الإتيان بالشيء من عمل أو رأي أو تدبير.
· المُعجزة أمر خارق للعادة, مقرون بالتَّحدِّي, سالم من المُعارضة.
أفضل مُعجزات النَّبيّ ☺ وأكملها وأجلّها وأعظمها القرآن الذي نزل عليه:
قَالَ النَّبِيُّ ☺: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ» (صحيح البُخاري 4981).
تعليق مصطفى البغا: (أعطي ما مثله آمن عليه البشر) أجري على يديه من المعجزات الشيء الذي يقتضي إيمان من شاهدها بصدق دعواه لأنها من خوارق العادات حسب زمانه ومكانه. (أوتيته) المعجزة التي أعطيتها. (وحيا) قرآنا موحى به من الله تعالى يبقى إعجازه على مر الأزمان ولذلك يكثر المؤمنون به ويوم القيامة يكون أتباعه العاملون بشريعته المنزلة أكثر من الأتباع العاملين بالشرع الحق لكل نبي.
شرح ابن حجر العسقلاني: [قَوْلُهُ: «وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ» أَيْ إِنَّ مُعْجِزَتِي الَّتِي تَحَدَّيْتُ بِهَا: الْوَحْيُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيَّ, وَهُوَ الْقُرْآنُ, لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْجَازِ الْوَاضِحِ, وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرُ مُعْجِزَاتِهِ فِيهِ, وَلَا أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا أُوتِيَ مَنْ تَقَدَّمَهُ, بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ الْمُعْجِزَةُ الْعُظْمَى الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ.][[1]]
قال تعالى: ▬وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ♂ [العنكبوت : 50-51]
الآيات التي تحدَّى اللهُ عزَّ وجلَّ فيها الخلق:
▬أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ♂ [الطور : 33-34]
▬أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ♂ [هود : 13-14]
▬وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ♂ [يونس : 37-39]
▬وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ♂ [البقرة : 23-24]
▬قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً* وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً♂ [الإسراء : 88-89]
المُشركون عجزوا عن الإتيان بمثله أو مثل بعضه
وهو عجزٌ يدلّ عليه النَّقل المُتواتر الذي يقع به العِلْم الضَّروري!
كان عجز المُشركين من العرب عن مُعارضة القرآن حقيقة لا جدال حولها, وكان عجز غير العرب عن ذلك أوضح, لأنَّ العرب – وهم المُتكلِّمون باللُّغة المُنزَّل بها – عجزوا عن ذلك مع توفُّر الدَّواعي وشدَّة الحاجة. والعجز عن الإتيان بمثل القرآن كان الدَّليل على صدق محمد ☺ ونبوَّته.
الدَّواعي وشدَّة حاجة قريش للإتيان بمثل القرآن أو مثل بعضه:
عدم الإتيان بمثل القرآن أو عدم الإيمان بنبوَّة سيدنا محمد ☺ أدَّى إلى:
· استباحة دمائهم وأموالهم وسبي ذريتهم. فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا, وتوصَّلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم من حُكمه. كان ذلك يُغنيهم عن تكلُّف القتال, وإكثار المِراء والجِدال, وعن الجلاء عن الأوطان, وعن تسليم الأهل والذُّريَّة للسَّبي!
أمثلة لقصار السُّوَر:
▬إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)♂ [سورة الكوثر]
▬وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)♂
[سورة العصر]
▬إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)♂ [سورة النصر]
▬قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)♂ [سورة الإخلاص]
المبحث الثاني: مناهج العُلماء في دراسة الإعجاز
إعجاز القرآن كائن في نظمه وتأليفه (التَّحدِّي بالإتيان بمثله أو بعض مثله)
· ترك المُعارضة مع توفُّر الدَّواعي وشدَّة الحاجة
· القرآن صار مُعجزاً لأنَّه جاء بأفصح الألفاظ, في أحسن نُظُوم التَّأليف, مُضمَّناً أصحّ المعاني
الأدلَّة على أنَّ القرآن من عند الله:
· ما في القرآن من مكنون الغيب
o ما يتضمَّنه من الإخبار عن الكوائن في مُستقبل الزَّمان
o ما تضمَّنه من قصص الأوَّلين وأخبار الماضين (مع العلم أنَّ النَّبيّ كان أُمِّيًّا وخالف قصص أهل الكتاب وصدق فيما أخبر بالتَّجربة العلمية)
o الإخبار بما كان من أوَّل خلق الأرض والسماء إلى انقضاء الدُّنيا
· ما في القرآن من دقائق التَّشريع
o جمعه لكل العُلُوم المعارف التي يحتاجها الإنسان
· ما في القرآن من عجائب آيات الله في خلقه
· الأثر الذي يتركه سماع القرآن في النَّفس (صنيعه بالقُلُوب وتأثيره في النُّفُوس)
· كون القرآن آية باقية لا تُعدم ما بقيت الدُّنيا مع تكفُّل الله تعالى بحفظه
· آيات العتاب
· ما نزل بعد طول انتظار
المبحث الثالث: ملامح المنهج الأمثل
كثرة وجوه إعجاز القرآن وتباينها في بعض الأحيان لا تُغيِّر من حقيقة إعجاز القرآن, وإنَّما تعكس تفاوت العُلماء في إدراك ذلك الإعجاز, وقد أخبر كلّ واحد منهم بما عرف, لأنَّ أمر القرآن عجيب: «يراه الأديب مُعجزاً, ويراه اللُّغوي مُعجزاً, ويراه أرباب القانون والتَّشريع مُعجزاً, ويراه عُلماء الاقتصاد مُعجزاً, ويراه المُربُّون مُعجزاً, ويراه عُلماء النَّفس والمعنيون بالدِّراسات النَّفسية مُعجزاً, ويراه عُلماء الاجتماع مُعجزاً, ويراه المُصلحون مُعجزاً, ويراه كلّ راسخ في علمه مُعجزاً».
المنهج الأمثل:
· تحديد الوجه الذي أعجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن أو مُعارضته في عصر النُّبُوَّة.
o المُشركون رأوا نظماً عجيباً خارجاً عن أساليب كلامهم, ورصفاً بديعاً مُبايناً لقوانين بلاغتهم ونظامهم, فأيقنوا بالقُصُور عن مُعارضته, واستشعروا العجز عن مُقابلته, وهذا هو الوجه في إعجاز القرآن.
o إعجاز القرآن من قِبَلِ أنَّه خارجٌ في بديع نظمه, وغرابة أساليبه عن معهود كلام البشر, مُختصٌّ بنَمَط غريب, لا يُشبه شيئاً من القول في الرَّصف والتَّرتيب, لا هو من قبيل الشِّعر, ولا من ضُرُوب الخطب والسَّجع, يعلم من تأمَّله أنَّه خارجٌ عن المألوف, مُباين للمعروف, مُتناسب في البلاغة, مُتشابه في البراعة, بريء من التَّكلُّف, مُنزَّه عن التَّصنُّع والتَّعسُّف.
o ومن البيِّن أنَّ العرب قد طُولِبُوا بأن يعرفوا دليل نُبُوَّة رسول الله ☺, ودليل صدق الوحي الذي يأتيه, بمُجرَّد سماع القرآن نفسه, لا بما يُجادلهم به.
· تحديد ما جاء في القرآن من الأمور التي تدلّ على أنَّه لا يُمكن أن يكون من عند أحد سوى الله تعالى.
o الإعجاز بما اشتمل عليه من ذكر لأخبار السَّابقين, ولأخبار مُستقبلة, وقعت كما ذكر, واشتماله على عُلُوم كونية, وحقائق, لم تكُن معروفة في عصر محمد ☺, وقد أتى بها القرآن, وتقرَّرت حقائقها من بعد, وكذلك ما اشتمل عليه من شرائع أثبت الوجود الإنساني أنَّها أصلح من غيرها, وأنَّها وحدها العادلة, وأنَّ هذا النّوع مُعجزة للأجيال كلّها.
o إنَّ ما جاء في القرآن من الإخبار بالمُغيّبات, والأمور المُستقبلية التي تحقَّقت فيما بعد, وقصص الأمم الماضية, وما جاء فيه من ذكر أسرار الكون, وبديع الصُّنع في الخلائق, لم يكن من وُجُوه الإعجاز الظَّاهرة التي أعجزت العرب في عصر النُّبُوَّة, وذلك لأنَّ وُقُوف النَّاس على ما في هذه المعاني من الحكمة الباهرة التي يعجز عنها البشر كان مُتراخياً عن زمن التَّحدِّي, ولا يصحّ أن يكون شاهد المُعجزة مُتراخياً في الزَّمن عنها, واقعاً في أعقابها, ولكن ذلك يُعطي الدَّليل المُستمرّ على صدق النَّبيّ ☺, وأنَّ هذا القرآن من عند الله تعالى.
نُقطة في غاية الأهمّية:
الوقوف على سرّ الإعجاز المُتعلِّق بتعبير القرآن مُباشرة أمر يعجز عنه جمهور الناس اليوم, لأنَّ كثيراً من النَّاس ليس لديهم اطِّلاع على المُسلَّمات اللُّغوية, وليس لديهم معرفة بأحكام اللُّغة وأسرارها, ومن الصَّعب أن يهتدي هؤلاء إلى أمثال هذه المواطن بأنفسهم من غير دليل يأخذ بأيديهم, يدلّهم على مواطن الفنّ والجمال, ويُبصِّرهم بأسرار التَّعبير, ويُوضِّح لهم ذلك بأمثلة يعونها ويفهمونها.
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصَّالِحات
[1] أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ): فتح الباري شرح صحيح البخاري, دار المعرفة ببيروت، ج9, صـ6.