القائمة إغلاق

موثوقية ومصداقية الكتاب المقدس تحت المجهر

بسم الله الرحمن الرحيم

مَوثُوقِيَّة ومِصْدَاقِيَّة الكِتَاب المُقدَّس تَحْت المِجْهَر!

قم بتحميل المقالة (DOC) أو (PDF)

أبو المُنتصر محمد شاهين التاعب

المقصود بـ «الموثوقية» و «المصداقية» هو أنَّك تستطيع أن تَثِق وتُصدِّق ما تقرأه في الكتاب المُقدَّس، أيّ أنَّ المسيحي يعتمد على نصّ الكتاب المُقدَّس كمرجع أساسي ورئيسي له فيما يخصّ «الإيمان» و «العقيدة».[[1]]

هذه «الموثوقية» و «المصداقية» مبنية على أمرين في غاية الأهمية، الأول: إيمان المسيحي بأنَّ الكتاب المُقدَّس مُوحى به من الله، والثاني: إيمان المسيحي بأنَّ نصّ الكتاب المُقدَّس ظلّ محفوظاً بطريقة تجعله مازال قادراً على الوُصُول لما أوحاه اللهُ في هذا الكتاب![[2]]

في السُّطُور القادمة سأحاول بيان الأسباب التي أفقدت الكتاب المُقدَّس «الموثوقية» و «المصداقية»، حتى يفهم المسيحي أنَّه لا يستطيع أن يعتمد على الكتاب المُقدَّس كمرجعٍ للعقيدة، وإنَّما عليه أن يبحث عن مرجعٍ آخر، موحى به من الله، ومحفوظ من أيِّ تحريف!

المُسلم يؤمن إيماناً راسخاً بتحريف الكُتُب السَّماوية السَّابقة، وأنَّها لم تَعُد صالحة كمرجع ديني، لذا أنزل الله عزَّ وجلَّ لنا كتاباً جديداً، وهو «القُرآن الكريم»، الموحى به من الله، والمحفوظ من أيّ تحريف، ليكون مرجعاً للنَّاس في كلّ شيء، له كامل الموثوقية والمصداقية!

نحن لا نؤمن بزوال كلّ ما أوحاه الله عزَّ وجلَّ قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنَّنا نقول إنَّ المُشكلة الرَّئيسية في زوال موثوقية ومصداقية الكُتُب السَّماوية السَّابقة هي اختلاط «الحق» بـ «الباطل»،  و «الوحي» بـ «كلام البشر»، بحيث لم يَعُد باستطاعتنا التَّفريق بينهما![[3]]

تأمَّل هذه الرِّواية الرَّائعة: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الكِتَابِ، وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ الأَخْبَارِ بِاللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمُ الكِتَابَ، فَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا» (صحيح البُخاري 2685)

في الرِّواية السَّابقة نجد شرطين يجب تحقيقهما معاً لكي نستطيع أن نتَّخذ الكتاب مرجعاً دينياً له كلّ الموثوقية والمصداقية. الشَّرط الأول هو أن يكون مُوحى به من الله، والشَّرط الثاني هو أن لا يُشَب، أيّ أن لا يختلط الوحي بكلام البشر!

نجد في الكتاب المُقدَّس أنَّ ما أوحاه الله قد اختلط بكلام البشر، ولم يعد بإمكاننا الفصل بينهما! فإنَّ المسيحي يقتبس من الكتاب المُقدَّس ويظنّ أنَّه يقتبس كلاماً مُوحى به من الله، والأمر ليس كذلك! فلا يوجد ما يضمن له أنَّ الكلام الذي يقرأه في الكتاب المُقدَّس مُوحى به من الله، وليس كلام البشر، ومن هُنا تأتي الموثوقية والمصداقية!

إذا استطاع المسيحي أن يَصِل إلى آلية تجعله مُتيقِّناً مِن أنَّ ما يقرأه في الكتاب المُقدَّس هو وحي الله وليس كلام البشر، حينئذٍ نستطيع أن نقول إنَّ الكتاب المُقدَّس له كمال الموثوقية والمصداقية! ولكنَّني أقول إنَّ الكتاب المُقدَّس ليس له موثوقية ومصداقية للأسباب التَّالية:

إثبات أنَّ الأسفار الكتابية الموجودة بين أيدينا اليوم مُوحى بها من الله مسألة شائكة جداً. من أجل إثبات وحي أيّ كتاب، يلزمنا أن نعرف الشَّخص الذي جاء بالكتاب، وأن نتأكَّد من أنَّه كان نبياً أوحى اللهُ إليه بهذا الكتاب.

السَّابق ذكره مُستحيل إثباته بالنِّسبة للأسفار الكتابية، لأنَّ الغالبية العُظمى من كتبة الأسفار الكتابية مجهولون وغير معروف هويتهم![[4]] وإذا كُنَّا نعرفهم (الشَّخصية الوحيدة المعروفة نسبياً لنا هي بولس!) فلا توجد أيّ وسيلة تجعلنا مُتأكِّدين مِن أنَّهم كانوا أنبياء أو أنَّ الله أوحى إليهم!

يجب أن نلفت الأنظار إلى مسألة نعلمها جيداً من خلال الدِّراسات التَّاريخية، وأبحاث النَّقد الكِتابي، ألَا وهي أنَّ الأسفار الكتابية الموجودة بين أيدينا الآن تمّ تدوينها بعد زَمَن الأنبياء الذين تمّ نسبة هذه الأسفار إليهم بوقت طويل. نحن نعلم يقيناً أنَّ الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه السَّلام تمّ تدوينها بعد زمنه بقُرُون طويلة جداً! وكذلك الأناجيل الأربعة تمّ تدوينها بعد رفع عيسى عليه السَّلام بما لا يقلّ عن 30 عاماً.

هذه الحقائق التَّاريخية تؤكِّد لنا أنَّ الذين قاموا بتدوين الأسفار الكتابية ليسوا هُم الأنبياء الذين نؤمن كمُسلمين أنَّ الله عزَّ وجلَّ أنزل عليهم كُتُباً، فالأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه السَّلام ليست هي التَّوراة التي أنزلها الله عزَّ وجلَّ، والأناجيل الأربعة المُعترف بها من قِبَل الكنيسة ليست الإنجيل المُنزل على عيسى عليه السَّلام، وهكذا الحال مع باقي الأسفار الكتابية، فإنَّ المسيحيين ينسبون هذه الأسفار إلى أنبياء بني إسرائيل، ونحن نعلم تاريخياً أنَّ هذه الأسفار تمّ تدوينها بعد زَمَن هؤلاء الأنبياء بفترة ليست بالقصيرة!

القضية ليست فقط في المسافة الزَّمنية الفارقة بين حياة الأنبياء وبين وقت تدوين هذه الأسفار المنسوبة لهم، فنحن لا نعلم ما حَدَث للنَّص أثناء انتقاله تاريخياً حتى جاء زَمَن تدوينه، وليس لديناً أيّ معلومات عن الأشخاص الذين نقلوا هذه الرِّوايات التي تمّ تدوينها فيما بعد، هل نستطيع أن نتخيَّل أنَّ قتلة الأنبياء وراجمي المُرسلين حافظوا على كتابات مَن قتلوهم ورجموهم؟!

نحن نعلم كمُسلمين أنَّ الله عزَّ وجلَّ استحفظ واستأمن أهل الكتاب على الكُتُب التي أنزلها (سورة المائدة الآية 44)، ومن خلال الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والنُّصُوص الكتابية، والدِّراسات التاريخية النَّقدية، نعلم يقيناً أنَّ أهل الكتاب «لم يكونوا أُمناء» (روميا 3 / 1-4)، ولم يُحافظوا على الكُتُب (أعمال الرُّسُل 7 / 53)، ولم يحفظوها، بل حرَّفوها وأفسدوها.

نزيد على ما سبق علمنا بعَدَم وُجُود أيّ ضوابط لنقل الرِّوايات والحفاظ عليها من التَّحريف، على عكس الموجود عند المُسلمين، فإنَّنا لا ننقل إلَّا عن الثِّقات، مع وُجُود ضوابط مُحكمة للحفاظ على النُّصُوص كما هي بدون تحريف، فهذا الذي يتمّ نقله «دين» و «عقيدة»، ويجب علينا أن نعرف عمَّن نأخذ ديننا وعقيدتنا.

وبالإضافة إلى مسألة مجهولية الكتبة الذين دوَّنوا الأسفار الكتابية، فإنَّنا نعلم أنَّهم لم يكتفوا بمُجرَّد تدوين ما وصل إليهم من روايات ونُصُوص، وإنَّما قاموا بعمليَّات تحرير أو تحريف مُكثَّفة، وغيَّروا النُّصُوص والرِّوايات التي كانوا يُدوِّنوها، حتى يجعلوها مُناسبة للمُجتمعات التي قاموا بتدوين هذه الكتابات من أجلها.[[5]]

هذا التَّدخُّل البشري السَّافر هو أخطر وأهمّ ما أفقد الأسفار الكتابية موثوقيتها ومصداقيتها، وأكبر دليل على هذا التَّدخُّل البشري هو ما نجده أثناء دراسة النُّصُوص الكتابية من أخطاء مُختلفة (سواء علمية أو تاريخية أو جغرافية … إلخ) وتناقضات مُتنوِّعة واختلافات كثيرة (سواء بين نُصُوص السِّفر الواحد، أو أثناء مُقارنة الأسفار الكتابية ببعضها البعض).[[6]]

قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) [النساء]

بالإضافة إلى ما سبق، نستطيع أن نقول إنَّ القارئ العادي للكتاب المُقدَّس يستطيع أن يُدرك وُجُود هذا التَّدخُّل أو العُنصر البشري من خلال الكثير من النُّصُوص الغريبة والعجيبة، والتي لا تليق أبداً بكتابٍ مُوحى به من الله! فإنَّنا نجد في الكتاب المُقدَّس «قصصاً من الماضي لا فائدة لها، وروايات غير أخلاقية قديمة قد تخطّاها الزَّمن، وحُرُوباً واعتداءات، وقصائد غريبة لا تحملنا على الصَّلاة، وإن سمَّيناها مزامير، ونصائح غير أخلاقية مُبغضة للنِّساء».[[7]]

هُناك نُقطة أخيرة، وقد تكون صادمة جداً فيما يخُصّ مسألة وحي الكتاب المُقدَّس، ألَا وهي أنَّنا أثناء القراءة الدَّقيقة لنُصُوص الكتاب المُقدَّس، سنُدرك أنَّ العهد القديم خالي تماماً من أيّ نُصُوص تقول بشكلٍ صريح أنَّه مكتوب بوحي من الله! كذلك أيضاً العهد الجديد!

قد نجد اقتباسات لكلام منسوب لله، وقد نجد نُصُوصاً مفادها مدح كلام الله، وقد نجد نُصُوصا تُعبِّر عن عقيدة الكاتب بخُصُوص أسفار أخرى، ولكن أثناء قراءة أيّ سفر بعينه، من أسفار الكتاب المُقدَّس، لن نجد أيّ نُصُوص تُخبرنا أنَّه مُوحى به من الله، مع الأخذ في الاعتبار أنَّنا يجب أن نجد هذا الادِّعاء في كلِّ سفرٍ من أسفار الكتاب المُقدَّس على حدى، ولا يجب أن نكتفي بنصٍّ واحدٍ ثمّ نقوم بتعميم مفهومه على كلّ الأسفار الكتابية، لأنَّ الكتاب المُقدَّس ليس كتاباً وحداً، بل مجموعة كُتُب.

إنَّ القارئ المُتأمِّل في أسفار الكتاب المُقدَّس سيُدرك أنَّ هذه الأسفار لا تدَّعي أنَّها مكتوبة بوحي من الله، بل على العكس تماماً، سيجد نُصُوصاً تُصرِّح بأنَّ هذه الأسفار جاءت نتاج «تأليف» بشري قد يُصيب وقد يُخطئ، وقد «يلحقه الوهن والتَّقصير» (المكابيين الثاني 15 / 39-40) وأنَّها نتيجة مجهود بشري في الجمع و «التَّدقيق» و «التَّتبُّع»، وأنَّها مكتوبة لأغراض شخصية (لوقا 1 / 1-4).

هذه الطَّبيعة البشرية الواضحة جداً في الكتاب المُقدَّس (خُصُوصاً في العهد الجديد) كانت سبباً رئيسياً في وُقُوع الاختلاف حول طبيعة وحي هذه الأسفار، وحول تحديد قائمة بالأسفار الموحى بها من الله!

من خلال دراسة التاريخ المسيحي المُبكِّر، نجد أنَّ «ثيئوفيلس» أسقف أنطاكية (أسقفاً 169م، ت. بين 181 – 185م) هو أوّل مَن أوضح أنَّ العهد الجديد هو موحى به.[[8]] كذلك فإنَّ الخلاف حول قائمة الأسفار الموحى بها من الله مازالت قائمة بين الطَّوائف المسيحية واليهودية إلى يومنا الحالي!

دراسة الأسفار الكتابية بلُغاتها الأصلية هي الوسيلة التي جعلتنا قادرين على إدراك أنَّ هُناك أكثر من 40 شخصاً من خلفيات مُختلفة، ودرجات ثقافية مُتفاوتة جداً، شاركوا في تدوين أسفار الكتاب المُقدَّس[[9]]،وأنَّ الكتاب المُقدَّس عبارة عن مجموعة كُتُب مُختلفة جداً[[10]] يظهر فيها النَّقص المُناقض للكمال الإلهي.[[11]]

وهكذا، بعد أن وصلنا إلى مرحلة وُجُود الأسفار الكتابية فعلاً، بعد أن دوَّنها الكتبة المجهولون، ننتقل إلى مرحلة نسخ نصّ الأسفار الكتابية إلى أن وصل الكتاب المُقدَّس إلينا!

في البداية، نعلم أنَّ الأسفار الكتابية نُسخت يدوياً، باستخدام أدوات كتابية بدائية، من قِبَل نُسَّاخ أصحاب مهارة مُتفاوتة (منهم الماهر في صنعته، ومنهم ما دون ذلك)، ومُيُولهم العقائدية والفكرية مُختلفة.[[12]]

عملية النَّسخ اليدوي أدَّت يقيناً إلى تحريف النَّصّ أثناء عملية نسخه. هذا أمر لا يُمكن إنكاره. وسواء وقع التَّحريف بشكل عفوي غير مقصود، أو وقع بشكل مُتعمَّد مقصود، فإنَّ النَّتيجة النِّهائية هي تحريف نصّ الأسفار الكتابية. يجب علينا الإشارة إلى أنَّ التَّحريفات المقصودة المُتعمَّدة، من قِبَل الذين كانوا مسئولين عن نسخ النَّصّ (بكل أشكالهم وأنواعهم، وبغضّ النَّظر عن دوافعهم وأغراضهم وأهدافهم)[[13]]، هي الأكثر أهمية وتأثيراً.

المُشكلة ليست في مُجرَّد وُقُوع التَّحريف أثناء عملية النَّسخ، ولكن في عَدَم إمكانية الفَصْل اليقيني بين ما دخل النَّصّ نتيجة التَّحريف وبين النَّصّ كما كان في الأصل. عدم الإمكانية جاءت نتيجة ضياع جميع النُّسَخ الأصلية المكتوبة بخطّ الكتبة المجهولين[[14]]، بالإضافة إلى أنَّ الدِّراسات الخاصَّة بعِلْم النَّقد النَّصِّي ترصد لنا أنَّ تحريف النُّصُوص الكتابية كان في زمن مُبكِّر جداً من تاريخ انتقال النَّصّ (بداية من أوّل مخطوطة منسوخة يدوياً)، ناهيك عن كمّ التَّحريف الكبير الذي حدث أثناء نسخ النَّصّ يدوياً، ولن ننسى إشكالية تراكم التَّحريفات ومُضاعفة عددها مع كلّ نُسخة جديدة! هذا مع وجود نفس الإشكالية القديمة، وهي المسافة الزَّمنية (التي تختلف من سفر لآخر) بين أقدم النُّسخ التي بين أيدينا، وبين زمن كتابة أو تدوين الأسفار الكتابية.[[15]]

وهكذا، عندما نقوم بدراسة مخطوطات الكتاب المُقدَّس، نجد مئات الآلاف من الاختلافات بينها، ولا نجد أبداً مخطوطتين مُتطابقتين، ومع حقيقة ضياع النُّسخ الأصلية، أصبح من المُستحيل أن نصل بشكل يقيني إلى النَّصّ كما كان في هيئته الأصلية، مع إدراكنا بأنَّ النَّص كما هو في حالته الأصلية ليس وحياً صافياً، وإنَّما جاء نتيجة عمليات تحرير أو تحريف قام بها كتبة مجهولون قاموا بتدوين نصّ مأخوذ من مصادر مجهولة، منقولة عن مجهولين!

الاختلافات بين المخطوطات هي السَّبب الرَّئيسي في وجود آلاف الاختلافات بين نُسخ الكتاب المُقدَّس المطبوعة، لذلك أقول أنَّ أسهل وسيلة لكشف تحريف الكتاب المُقدَّس هو استخراج الاختلافات بين النُّسخ والتَّرجمات المُختلفة، لأنَّ الاختلافات بين النُّسخ والتَّرجمات انعكاسات للاختلافات بين المخطوطات.

الإشكالية الكُبرى فيما يخُصّ مسألة اختلاف مخطوطات ونُسَخ الكتاب المُقدَّس هي حقيقة عَدَم اتِّفاق المسيحيين على نصٍّ مُقدَّسٍ، فإنَّ كلّ طائفة تعتقد أنَّ النَّصّ الموجود في النُّسخة التي تستخدمها هو المُقدَّس، وأنَّ أيّ شكل آخر للنَّصّ يختلف مع الموجود بين أيديها لا يُعَدّ مُقدَّساً.

مع كلّ ما سبق، يجب ألَّا نغفل حقيقة في غاية الخطورة والأهمية، ألَا وهي أنَّ عملية اختيار النَّصّ الأصوب والأقدم والأصحّ بين الأشكال المُختلفة للنَّصّ، والتي نجدها في المخطوطات، عملية بشرية من الدَّرجة الأولى، وهذا يُذكِّرنا أيضاً بأنَّ عملية اختيار الأسفار المُقدَّسة، ووضع ما يُسمَّى بـ «قانون الكتاب المُقدَّس»، أو قائمة الأسفار المُقدَّسة والموحى بها من الله، عملية بشرية من الدَّرجة الأولى، وإن ادَّعى المسيحيون غير ذلك!

فيما يخُصّ موضوع «قانون الكتاب المُقدَّس»، نلاحظ غياب أيّ معايير ثابتة تحكم اختيار الأسفار، بحيث نستطيع أن نقول إنَّ هذا الكتاب أصبح ضِمْن قائمة أسفار الكتاب المُقدَّس لأنَّه تحقَّقت فيه الشُّرُوط التالية!

هذه الأسفار تمّ اختيارها ضِمْن قائمة أسفار الكتاب المُقدَّس لأنَّ الكنيسة أخذت هذا القرار! بغضّ النَّظر عن أيّ معايير أو شُرُوط. بل إنَّني أقول إنّ المسيحي لا يجرؤ أن يضع أيّ معايير أو شُرُوط للتَّفريق بين ما هو إلهي وما هو ليس كذلك، لأنَّه إذا وضع أيّ معايير أو شُرُوط فلن يجدها مُتحقِّقة في الأسفار التي اختارتها الكنيسة كمُقدَّسة!

إلى يومنا هذا، نجد اختلافات كثيرة جداً بين قائمة الأسفار المُقدَّسة الخاصَّة بكلّ طائفة أو فِرْقة، سواء كانت يهودية أو مسيحية! فإنَّنا نجد أنَّ اليهود العبرانيين يختلفون مع اليهود السَّامريين ويهود الشَّتات. كلّ فرقة يهودية تعتمد قائمة أسفار مُقدَّسة مُختلفة عن الأخرى! كذلك نجد اختلافات بين الكنائس الأرثوذكسية الشَّرقية المُختلفة والكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية.

هذه الاختلافات لهذا جُذُور تاريخية قديمة جداً، بدءاً بالاختلاف القائم بين الطَّوائف اليهودية المُختلفة، ومُرُوراً بالاختلافات التي نجدها في كتابات آباء الكنيسة الأوائل، و وُصُولاً إلى الاختلافات التي حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت في العُصُور الوسطى!

مع ذكر المشاكل الخاصَّة بالنَّص الناتجة عن التَّحريف أثناء عملية النَّسخ، والمشاكل الخاصَّة باختيار قائمة الأسفار التي يجب أن تكون ضِمْن الكتاب المُقدَّس، يجب أن لا ننسى إشكالية ترجمة الأسفار الكتابية!

التَّرجمة نوع من أنواع التَّفسير، والمسيحي ليس لديه ما يجعله مُتيقِّناً من أنَّ فَهْمه للنَّصّ هو الفَهْم الصَّحيح!

المُفترض أنَّ الفهم الصَّحيح للنَّص هو ما فهمه المسيح عليه السَّلام وأصحابه! ولكنَّ المسيحي ليس لديه من التُّراث والوثائق التَّاريخية التي تحفظ له هذا الفَهْم، سواء لنُصُوص العهد القديم أو الجديد.

المسيحي ليس لديه أيّ أسانيد، أو معرفة للرِّجال الذين نقلوا له الدِّين المسيحي، لذلك لا يستطيع أن يُثبت أنَّ العقيدة التي كان عليها «أثناسيوس الرَّسولي» هي نفس العقيدة التي كان عليها أصحاب المسيح عليه السَّلام، وكذلك لا يستطيع أن يُثبت أنَّ تفسير «أثناسيوس» لنُصُوص الأناجيل هو نفس تفسير أصحاب المسيح عليه السَّلام!

وهكذا نجد صِراعات تاريخية قديمة وحديثة كثيرة جداً، كلَّها دائرة حول تفسير النَّصّ الكتابي، فإنَّ الآريوسيين وسائر الطَّوائف المسيحية الأولى كانوا يستشهدون على «كُفرهم» من خلال النُّصُوص الكتابية (عقائد هذه الطَّوائف تُعتبر كُفر بالنِّسبة للطَّوائف المسيحية الحالية). وكذلك الصِّراع الذي دار بين الكنيسة الشَّرقية والكنيسة الغربية في القرن الخامس كان مداره تفسير النَّصّ الكتابي، وكذلك الصِّراع الذي دار بين الكنيسة الغربية والبروتستانت في العُصُور الوسطى كان مداره تفسير النَّصّ الكتابي.

وهكذا سيستمرّ الصِّراع إلى أن يرث اللهُ الأرض ومَن عليها، لأنَّ المسيحي لا يملك من التُّراث والتَّاريخ والعِلْم والمعرفة ما يُثبت من خلاله أنَّه على الحقّ وغيره على الباطل، أمَّا المُسلم فإنَّه يملك مِن الأسانيد والتُّراث والتَّاريخ، وعِلْم الرِّجال، وعِلْم الجَرْح والتَّعديل، وعِلْم مُصطلح الحديث، ما يجعله مُتيقِّناً مِن أنَّ الذي هو عليه الآن، هو نفس ما كان عليه النَّبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه!

هذا السُّلطان البشري على الكتاب المُقدَّس، سواء فيما يخصّ جمع النَّصّ وتدوينه، وما تمّ من عملية تحرير أو تحريف، أو ما يخصّ الاختيار بين الأشكال المُختلفة للنَّصّ في المخطوطات، أو ما يخصّ اختيار أيّ الأسفار هي التي يجب علينا أن نُقدِّسها، أو حتى فيما يخُصّ ترجمة أو تفسير النُّصُوص الكتابية، يجعلنا نشعر يقيناً أنَّ الكتاب المُقدَّس كتاب بشري من بدايته وإلى نهايته، ولكنَّنا لا نُنكر وجود مُحتوى قد يكون إلهياً في الكتاب المُقدَّس، جاء نتيجة استخدام الكتبة المجهولين لبعض المواد التي قد تكون منقولة عن الأنبياء بالفعل!

بشرية الكتاب المُقدَّس ظاهرة في كلّ شيء يخصّ الكتاب، وأقصد بـ «البشرية» إمَّا ظُهُور نقص مُناقض للكمال الإلهي الذي يجب أن يكون موجوداً في كتابٍ موحى به من الله (هذا النَّقص البشري يظهر في كلّ التَّفاصيل، حتى في مسألة تقسيم الأسفار إلى إصحاحات وأعداد)[[16]]، أو الدَّليل التَّاريخي على تدخُّل البشر في عملية تكوين الكتاب، سواء عن طريق اختيار اسمه وأسماء أقسامه، أو عدد أسفاره، أو مُحتوى نصُّه، أو طريقة ترجمته وتفسيره، ناهيك عن تدخُّل البشر في عملية صَكّ نُصُوصه وكتابته وتأليفه وجمعه وتحريره من الأساس، ثمَّ تحريفه أثناء نسخه!

مع كلّ ما سبق، أجزم يقيناً أنَّ المسيحي لا يستطيع أن يفصل بين ما هو بشري وما هو إلهي في الكتاب المُقدَّس، لذا وجب عليه أن يترك الكتاب المُقدَّس كمرجع ديني، ويبحث عن مرجعٍ آخر ليأخذ منه الدِّين والعقيدة.

إذا أردت أن تطَّلع على المزيد من الأدلَّة الخاصَّة بالأسباب التي ذكرتها، أرجو مُطالعة الآتي:

· شرح كتاب: تحريف أقوال يسوع http://goo.gl/qgPyQr

· ملزمة: النقد النصي للعهد الجديد http://goo.gl/yZqbq2

· ملزمة: فكرة شاملة عن الكتاب المُقدَّس http://goo.gl/0yfdgA

· ملزمة: الكتاب المُقدَّس كتاب غريب ومُحيِّر http://goo.gl/EjSv7k

· بحث: اكتشف التحريف بنفسك http://goo.gl/jHwtGk

· بحث: دائماً بين الأصل والترجمة فرق ظاهر http://goo.gl/idJ4mW

الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصَّالحات


[1] آرثر بينك: الوحي الإلهي للكتاب المقدس، ط. دار النشر الأسقفية، صـ5.

[2] الدكتور فريز صموئيل: الكتاب الفريد والدفاع المجيد، مطبعة أوتوبرنت، صـ42.

[3] قال تعالى: ▬فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79)♂ [سورة البقرة] وقال تعالى: ▬وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)♂ [سورة آل عمران]

[4] الكتاب المُقدَّس: ترجمة الرَّهبانية اليسوعية، مدخل إلى الكتاب المقدس، جمعيات الكتاب المقدس في المشرق، صـ29.

[5] ستيفن ميلر و روبرت هوبر: تاريخ الكتاب المقدس، دار الثقافة، صـ75 و 77.

[6] القسّ منسَّى يوحنا: شمس البِر، مكتبة المحبَّة، صـ22.

جاك ماسون اليسوعي: إنجيل يسوع المسيح للقديس مرقس دراسة وشرح، ط. الاتحاد لطابعة الأوفست، صـ10.

[7] الأب اسطفان شربنتييه: تعرَّف إلى الكتاب المقدس، دار المشرق ببيروت – صـ9.

[8] تادرس يعقوب ملطي: نظرة شاملة لعلم الباترولوجي في الستة قرون الأولى، كنيسة مار جرجس بالإسكندرية، صـ30.

[9] عبد المسيح اسطفانوس: تقديم الكتاب المقدس (تاريخه، صحته، ترجماته)، ط. دار الكتاب المقدس، صـ21.

[10] الكتاب المُقدَّس: ترجمة الرَّهبانية اليسوعية، مدخل إلى الكتاب المقدس، جمعيات الكتاب المقدس في المشرق، صـ29.

[11] الكتاب المُقدَّس: ترجمة الرَّهبانية اليسوعية، مدخل إنجيل يوحنا، جمعيات الكتاب المقدس في المشرق، صـ286.

[12] المهندس رياض يوسف داود: مدخلٌ إلى النَّقد الكِتابي، دار المشرق ببيروت، صـ 23.

الكتاب المقدس: ترجمة الرَّهبانية اليسوعية، مدخل إلى العهد الجديد، دار المشرق ببيروت – صـ12، 13.

[13] شنودة ماهر إسحاق: مخطوطات الكتاب المقدس بلغاتها الأصلية، الأنبا رويس بالعباسية – صـ20.

[14] يوسف رياض: وحي الكتاب المقدس، مكتبة الإخوة، صـ63.

شنودة ماهر إسحاق: مخطوطات الكتاب المقدس بلغاتها الأصلية، الأنبا رويس بالعباسية، صـ19.

[15] يوسف رياض: وحي الكتاب المقدس، مكتبة الإخوة، صـ68.

[16] الأب جورج سابا: على عتبة الكتاب المقدس، منشورات المكتبة البولسية، صـ184.

1 Comments

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

اكتشاف المزيد من مدونة التاعب

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading